زيارة الرئيس المصري إلى تركيا: الأبعاد والنتائج – تقدير موقف
لتنزيل ورقة تقدير الموقف كاملة اضغط هنا
مـــقـدمــــة
قام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي زيارة تاريخية لتركيا، وقابل فيها نظيره التـركي رجب طيب أردوغان، وذلك بعد قطيـعة تجاوزت عقدا من الزمن، وتأتي زيـارة السـيسـي لتـركيا بعد تحسن ملحوظ في العلاقات الثنائية، وبعد زيارة أردوغـان للقــاهرة في فبراير 2024م، كأول زيارة له إلى مصر منذ تولي الـسـيسي رئاسة مصر.(1)
وتخلل اللقاء بين الرئيسين توافق حول عدد من الـمـلفات، كـوقف الحرب في غزة، والتقارب التركي السوري، وزيادة التبادل التجاري بين البلدين، وتوقيع 17 اتفاقية لتعزيز العـــــلاقات التــجـاريـة بين البـلـديـن.(2)
هذه الورقة تتناول عودة العلاقات بين البلدين بعد قطيعة سابقة، وملفات التشابك بينها، وما يمكن لهذه الزيارة أن تحققه من نتائج.
قــطيعـــة ســابـقـــة
تأتي هذه الزيارة من الرئيس المصري بعد قطيعة سابقة تجاوزت عقدًا من الزمن، وصلت إلى مستوى طرد السفراء، إذ قامت مصر بإبلاغ السفير التركي لديها في 2013م بأنه شخص غير مرغوب فيه(3)، وردت تركيا بالمثل، ووجه أردوغان تصريحات معادية للسيسي خلال فترات مختلفة، ووصفه بـ “الطاغية” و”القاتل”، واستمر في محافل كثيرة برفع “شارة رابعة” ما يظهر بلوغ تأزم العلاقات بين البلدين لمستوى حرج.
ولهذه القطيعة أسباب مختلفة، أولها موقف أردوغان تجاه شرعية رئاسة السيسي، ووصفها بـ«الانقلاب غير المقبول»، واستقباله جماعة الإخوان المسلمين الملاحقة من النظام المصري وانحيازه لـ “رابعة العدوية”، والخلاف حول حقول الغاز في البحر المتوسط، وتعاون مصر مع اليونان وقبرص باعتبارها دول معادية لتركيا في هذا السياق. وزاد العلاقات تأزمًا الوجود التركي في ليبيا فاعتبره السيسي مهددا للأمن القومي وحذّر أنقرة من الاقتراب من محور «سرت – الجفرة» واصفًا إياه: «خطاً أحمر» لن يسمح بتجاوزه.(4)
كل هذه الأسباب والعوامل أدّت لقطيعة في العلاقات بين البلدين، قبل أن تحرص الدولتين، وتركيا على وجه الخصوص على عودة العلاقات وتخفيف التوترات، في إطار حملة دبلوماسية تركية شاملة لتصفير المشاكل، أبرزها مع السعودية والإمارات ومصر.
عــودة العــلاقـــات
ذهبت العلاقات بين البلدين بمسار انتكاسي بمرور السنوات، ولكن هذا لم يستمر، إذ وصلت الدولتان لنقطة توقف في انهيار العلاقات، بإرادة تركية بدايةً أكثر من كونها إرادة مشتركة، إذ سلكت مسارًا عامًا يهدف لتحسين العلاقات مع دول المنطقة، ومنها مصر، ليتوقف المسار الانتكاسي في علاقات البلدين، وبدأت بوادر عودة العلاقات بالظهور تدريجيا في إطار ملفات الاشتباك لمصالح البلدين.
بــوادر عـــودة الــعــلاقــــات
بدأت العلاقات بين البلدين بعودة الاتصالات الدبلوماسية المعلنة منذ مارس 2021م، ثم المحادثات الاستكشافية الأولى بين مسؤولي الخارجية في البلدين خلال مايو من العام نفسه، لتتطور وتيرة التنسيق الدبلوماسي بين البلدين وتصل للمصافحة بين الرئيسين التركي والمصري للمرة الأولى على هامش حضورهما افتتاح كأس العالم لكرة القدم في قطر في 20 نوفمبر 2022م(5) ما أزاحت الجليد بين الرئيسين لحد بعيدٍ، ثم جاءت زيارة وزير الخارجية المصري لأنقرة في 27 فبراير 2023 لتقديم الدعم في أعقاب الزلزال المدمر في تركيا، وأرسلت طائرتي مساعدات والسفينة “حلايب” محملةً بـ650 طنا من المساعدات الإنسانية لتركيا.(6) ووصل التقارب بين الرئيسين ليعقد أول لقاء قمة بين السيسي وأردوغان في نيودلهي على هامش (قمة العشرين) في 10 سبتمبر 2023م، وبعد شهرين لقاءهما على هامش القمة العربية الإسلامية بالرياض.(7) وتوجت هذه البوادر مؤخرا بزيارة أردوغان للقاهرة قبل نصف عام من الآن.
دوافــع إعـــادة الـعـــلاقـــــات
إن أسباب قطع العلاقات بين البلدين كانت أقرب لكونها أسبابا أيديولوجية، ولكن أسباب عودتها كانت اقتصادية وسياسية، إذ بلغ التبادل التجارى بين الدولتين 7.1 مليار دولار في 2022، ووصلت الاستثمارات التركية في مصر إلى 2.5 مليار دولار في أبريل 2023م.(8) مما يدفع البلدين لتهيئة أجواء سياسية تدعم زيادة التبادل التجاري، خصوصًا أن تركيا أشبه بـ”الدولة التجارية” التي تعطي الجانب الاقتصادي أولوية كبيرة، وأما مصر فهي تمر بظروف اقتصادية صعبة، مما يجعلها تحرص على زيادة التبادل التجاري بإعادة العلاقات، وكذا لمجال الطاقة والغاز دور بارز في دفع الدولتين لتعزيز العلاقات فيما بينها، إذ تعتمد تركيا على الغاز المصري بنسبة كبيرة؛ نظرًا لوقوع الغاز الروسي والإيراني تحت بنود عقوبات تجعل تركيا تتجه نحو الغاز المصري.
وجاءت دوافع أخرى دفعت البلدين لتسريع عجلة تحسين العلاقات المزمع فيها سابقًا، ومن هذه الدوافع، الحرب في السودان، إذ تعتبرها مصر جزءا من أمنها القومي، ونزح على إثر الحرب ملايين السودانيين إلى مصر، مما يثقل كاهل الاقتصاد المصري، وتحتاج مصر للدور التركي في تعاملها مع الحرب في السودان، وكما تحتاج نفس الدور في الملف الأثيوبي، والذي بدوره يشكل تهديدًا قوميًا لمصر، إضافة إلى التشابك بين الدولتين في الملف الليبي، والملف السوري، والتواجد المشترك في الصومال.
وبدورها الحرب في غزة شكلت آخر الدوافع وأبرزها في دفع عجلة المصالحة، إذ تطمح الدولتان لتجنب أي أضرار بفعل الحرب المستمرة والتي قد تتسع في المنطقة، وتمثل مصر العنصر الأقرب في إدارة ملف تفاعلات القضية الفلسطينية إلى جانب قطر، وهو ما يفسر حرص تركيا على أهمية التكامل مع مصر لحل الأوضاع المتوترة بين فلسطين وإسرائيل، وساهم بتعزيز هذا، التوافق التركي والمصري تجاه القضية الفلسطينية، فقد أدانت القاهرة وأنقرة العمليات العسكرية الإسرائيلية، وتطالب بإيقاف الحرب الفوري، وتتفق حول ضرورة “حل الدولتين”.
من خلال الدوافع المتعددة لإعادة العلاقات، المتمثلة بملفات الاشتباك بين الدولتين، كالملف الاقتصادي والطاقوي، والملف الليبي والسوري والفلسطيني، والحرب في السودان، والشراكة المحتملة في الصومال، تتضح أسباب مسارعة الدولتين بإعادة العلاقات، ويبدو من خلال هذه الملفات أيضًا، أن الدولتين تدرك أهمية تقاربها في تحقيق مصالحها المشتركة، مما يجعلنا نتنبأ بعلاقات مستمرة، وشراكات قادمة بين الدولتين، وتعزيز الثقة على أعلى المستويات.
الــتـقـــاء واشـتـبـــاك
توجد العديد من الملفات التي تمثل التقاء واشتباك بين البلدين، وهذه الملفات هي من تحدد طبيعة العلاقات بالذهاب نحو التوافق أو الاختلاف، وتمثل دوافع لعودة العلاقات ومآلات لها في آن واحد. وأبرز هذه الملفات، الملف الليبي، وملف حرب غزة، وسوريا، والسودان، والصومال، والتبادل التجاري، وغاز شرق المتوسط.
الــمـلـف الـلــيــبــي
تشاركت مصر وتركيا التأثير في الوضع الليبي، فكان لكل منها دور بارز، إذ تدعم مصر قوات المشير “حفتر” الذي ينشط في شرق ليبيا، وفي المقابل تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني بغرب ليبيا ممثلة بـ”عبد الحميد الدبيبة “، وبقي هذا التنافس بين البلدين على الساحة الليبية مستمرًا واستمر اختلاف وجهات النظر بين الدولتين لفترة من الزمن.(9) وكان اختلاف تركيا ومصر في الساحة الليبية ذو امتدادات إقليمية، ويظهر هذا جليًا عندما قامت مصر بتنسيق مع دولة اليونان “العدو التقليدي لتركيا” وذلك لأسباب نابعة من الخلاف حول الملف الليبي، تحديدًا توقيع تركيا اتفاقية نفطية مع حكومة “عبد الحميد الدبيبة “في طرابلس في أكتوبر 2022م.(10)
وكذلك “اتفاقية شرق المتوسط” لترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا أدت لتصاعد الخلاف، ويعبر عن حجم الخلاف تصريح الرئيس المصري في 20 يوليو 2022 أنه يعتبر خط “سرت – الجفرة” خطا أحمرا.
مرحلة الاختلاف هذه لم تكن الحال الدائم، إذ بدأت بعض بوادر التوافق بين مصر وتركيا حول الملف التركي، كالاتفاق على ضرورة إجراء الانتخابات، وطرد المليشيات المتواجدة في ليبيا، ووحدة ليبيا، وعزز البلدان توافقهم حول هذا في المؤتمر المشترك بين تركيا ومصر في الزيارة الأخيرة للرئيس المصري لتركيا، وتظهر بوادر إيجابية أخرى في هذا الشأن، إذ أن سلطات شرق ليبيا، التي كانت متحفظة في التعامل مع تركيا، بدأت تتجه نحو تحسين العلاقات معها، وظهر ذلك في زيارة بلقاسم حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، إلى أنقرة ولقائه بوزير الخارجية التركي في خطوة تأتي في إطار التقارب المصري التركي. يظهر أن مصر وتركيا تتجهان نحو توافق مشترك، من شأنه أن يخفف معاناة الليبيين، وقيام دولة ليبية قادرة على تمثيل الليبيين، ولكنه لن يكون على المدى القريب، وذلك بسبب وجود أطراف أخرى متحكمة أو مؤثرة في المشهد الليبي، كالدور الأميركي والتأثير الإيراني، إلا أن التقارب المصري التركي يمثل عاملًا إيجابيًا يصب في الصالح الليبي، حتى وإن لم يكن بالشكل الذي يحلم به الليبيون، إلا أنه على الأقل سيضمن عدم اندلاع حرب أخرى بين أطراف الصراع في ليبيا.
الــحـرب عـلى غــزة
وكما أن هذه الحرب ألقت بظلالها على العديد الدول وأثرت عليها سلبًا تارة، وإيجابًا تارة أخرى، فإنها كذلك بالنسبة لتركيا ومصر، إذ تأثرتا بهذه الحرب، وهو ما يفسر إلى حد ما زيارة أردوغان إلى القاهرة السابق أوانها في سياق العلاقات المصرية التركية، إذ زار القاهرة بعد أربعة أشهر من بدء الحرب، والتقى بالسيسي، وكان ملف غزة هو الأشد حضورًا من بين ملفات الزيارة الرئاسية(11)، ويعود التأثير البالغ لحرب غزة على مصر وتركيا، لاعتبارات أمنية واقتصادية وسياسية، فحرب غزة والتوافق حولها، لم يكن نتيجة للتقارب المصري التركي وحسب، بل كانت سببًا، إذ سرعت التقارب بين البلدين؛ نظرًا لحساسيتها لدى البلدين، ومن المهم التوصل لحقيقة أن حرب غزة كانت سببًا في تسريع التقارب، والتوافق المصري والتركي حول الحرب غزة نتيجة تعززت بالتقارب. ويشكل ملف حرب غزة، كغيره من الملفات، نافذة لتعزيز التقارب المصري التركي، إذ تتفق الدولتان حول عدوانية وهمجية عدوان قوات الاحتلال الإسرائيلي، وضرورة إدانة إسرائيل وإيقاف الحرب، وبشكل عام تتفقان حول تطبيق حل الدولتين. وتمتد انعكاسات هذا التقارب حتى على الصعيد الإسرائيلي، إذ أن إسرائيل لا تستقبل هذا التقارب برحابة صدر، وتصنفه تطورًا سلبيًا، على الصعيد العام باعتبار الثلاث من أبرز القوى الإقليمية المتنافسة في المنطقة، وعلى صعيد حرب غزة بشكل خاص، إذ سيلقي هذا التقارب بظلاله على سعي إسرائيل في إطالة أمد الحرب وقد يؤثر ولو بشكل نسبي على أهداف إسرائيل وخططها في حرب غزة، ولعل أبسط السبل هو توغل الدور التركي في مصير الحرب والتأثير فيه عن طريق بوابة مصر، باعتبارها الشريك العربي الأبرز في إدارة التفاعلات في القضية الفلسطينية وإدارة المفاوضات، وهذا ما ستنزعج منه “إسرائيل”، ويؤيد انزعاجها تصريحات أردوغان الأخيرة، التي هدد فيها بالتدخل في حرب غزة (12)، ومن ثم تصريحاته التي أشار فيها إلى “الصهيونية ضد المسلمين” ودعوته لتشكيل تحالف إسلامي. (13)
ولعل أبرز مظاهر التنسيق بين تركيا ومصر التي ستلقي بظلالها على الوضع في غزة، هي زيادة حجم المساعدات لقطاع غزة التي تقدمها تركيا عبر مصر، ولطالما أرسلت تركيا مساعدات لقطاع غزة عديد المرات عبر مصر. (14)
الـمـلــف الســـوري
المشهد السوري يشهد حالة ركود خلال الفترة الحالية، وباعتبار تركيا أهم الأطراف المتحكمة فيه، وتتواجد في عدد من مناطق سوريا، نبع السلام، عفرين، درع الفرات، إضافة إلى إدلب، فإنها تسعى لتسيير الوضع بما يحقق مصالحها، ويبدو أنها اختارت التقارب بينها والنظام السوري، لتطوي مرحلة من الاستنزاف وتلتفت نحو مصالحها الداخلية والاقتصادية بشكل أكبر، ويظهر هذا من خلال تصريحات أردوغان الساعية لإحداث تقارب تركي سوري. (15)
وستتمكن تركيا من خلال تقاربها مع مصر من استمثار الموقف المصري المقرب من النظام السوري، لدعم عجلة التقارب التركي السوري، خصوصا أن مصر تدعم مسبقًا التقارب التركي السوري، وتدعو للتوجه لحلول سياسية، وكانت دعت سابقًا إلى مغادرة القوات التركية الأراضي السورية، وتبرر تركيا تواجدها كحق لها في حماية أمنها القومي، خصوصا مع الــوجود الكــــردي الذي يشكل مهددًا لتركيا، وبدوره النظام السـوري ليس في أقوى حالاته؛ ولهذا يقبل ويتطلع للتقارب مع تركيا طمعًـا في أي مــصالـح مـمـكنة، ولكن تـعـيقــه بـعـض المعوقات، كالدور الإيـراني الذي لا يبدي ارتياحًا تجاه إيـقاف الحرب وإيجاد حلول سياسية، وكذلك التدخـلات الخارجية في سوريا متنازعة النفوذ في سوريا كما يظهر في خريطة النفوذ.
ولهذا ستعول تركيا على الدور المصري لدفع النظام السوري في قبول التقارب والمضي فيه، وهذا ما لا تعارضه مصر، خصوصًا أنها ليس لديها أطماع حقيقية في سوريا، ولا تعتبره ملفًا يكلفها الكثير إذا دعمت التقارب التركي السوري، وإنما قد يصب في صالحها بشكل نسبي في إطار تعزيز الاستقرار في المنطقة.
يمكننا الذهاب بتوقعنا أن التقارب المصري التركي يعتبر عاملًا مهمًا سيسرع التقارب التركي السوري، وستسعى تركيا لاستثماره، لدفع عجلة التقارب مع النظام السوري في إطار التوجه التركي لتصفير مشاكل تركيا وتوتراتها مع دول المنطقة.
الـمـصــالــح الاقــتـصـاديــة
يأتي التقارب المصري التركي في ظل أزمة اقتصادية صعبة في السنوات الأخيرة في البلدين؛ ولهذا لعب العامل الاقتصادي دورا هامًا في دفع عجلة التقارب للأمام، لاحتياج كل منها للأخرى، فمصر تعتبر بوابة التجارة التركية في القارة السمراء، وتركيا تمثل بوابة مصر التجارية إلى أوروبا، وهذا ما يفسر استمرار العلاقات الاقتصادية بين البلدين، رغم انقطاع العلاقات السياسية بين البلدين لأكثر من عقد. ويؤيد دور العامل الاقتصادي في التقارب، أن زيارة السيسي لأنقرة شهدت عقد الاجتماع الأول لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين تركيا ومصر، الذي كان قد تم تدشينه خلال زيارة اردوغان للقاهرة، وكذلك تضمن الاجتماع حوالي 36 بند ركزت معظمها على الملف الاقتصادي والتعاون المشترك فيما بينهم ومن أبرز هذه البنود الاستمرار في تطوير مناخ الاستثمار لرجال الأعمال، وزيادة الصادرات والواردات وتشجيع الاستثمارات الجديدة والتعاون في مجالات المشروعات وريادة الأعمال، والترويج وزيادة المشروعات الاقتصادية والفرص الاستثمارية المشتركة في كافة المجالات، وتعزيز التعاون في مجال الطاقة، وكذلك السياحة والاعلام والاتصالات. كما تم توقيع مذكرتي بين شركة بولاريس التركية والحكومة المصرية لتطوير منطقتين صناعيتين بالعاصمة الإدارية و6 أكتوبر، وعزز دور العامل الاقتصادي في مقاربة الدولتين، الأزمة التي تمر بها كلا الدولتين. (16)
وباعتبار دور العامل الاقتصادي في تعزيز التقارب بين الدولتين، فإنه لا يقتصر على كونه دافع فقط، وإنما دافع ونتيجة، إذ ستنعكس هذه الزيارة على التعاون في الملف الاقتصادي ليكون نتيجة تتحقق من التقارب بعد أن كان دافعا وسببا فقط، وفي هذا السياق يهدف الرئيسان لزيادة حجم التجارة بين البلدين من 10 مليار دولار إلى 15 مليار دولار خلال خمس سنوات، مع دراسة وبحث إمكانية استخدام العملات المحلية في التجارة في الفترة المقبلة لخفض الطلب على الدولار في البلدين، وظهر هذا من خلال تصريحات البلدين أثناء الزيارة. (17)
تــــعــاون مـــحــتــمــل
بالوتيرة العالية التي تتصاعد بها العلاقة الثنائية بين البلدين، يمكن الجزم أن التعاون الحالي سيمتد لملفات جديدة ومحتملة، وأبرز ما ستسعى إليه مصر للاستفادة من تركيا ملفاتها المعقدة في سد النهضة والقرن الأفريقي، خصوصًا أن لتركيا ثقل اقتصادي وعسكري في القرن الأفريقي، وهذا الحضور لتركيا يعزز من رغبة مصر بدعم ملف سد النهضة من ناحية، وملف الصومال في إطار التوترات بين مصر وأثيوبيا من ناحية أخرى، إذ أن أثيوبيا تستعرض قوتها على حدود الصومال، ويظهر أن الهدف من هذا هو وصولها إلى البحر الأحمر عبر ميناء تريد استئجاره في “صومالي لاند”(18) الانفصالية عن الصومال، ويظهر أيضًا أن تحرك مصر الأخير جاء تعاطيًا مع هذه السلوكيات الأثيوبية، كون تهدد الأمن القومي المصري، ولهذا قامت بإرسال قوات ومعدات مصرية إلى الصومال، ويأتي هنا دور تركيا لتستثمره مصر، كونها الأولى تملك قاعدة عسكرية كبيرة في الصومال، بل أنه من المرجح أن مصر أرسلت قواتها إلى الصومال وفقا لتفاهمات مع تركيا، وإن كانت ضمنية، وكذلك كان لتركيا دوراً مهماً في دعم حكومة أثيوبيا خلال الصراع مع جبهة تحرير شعب تغيراي،(19) ويبدو أن تركيا في موقف حرج، بين مصر وأثيوبيا، ولكنها سترجح مصر، ولكن سيكون هذا بمقابل تستفيد منه تركيا في ملف آخر، والأقرب لهذا هو إعادة مصر النظر في ملف منتدى غاز شرق المتوسط.(20)
ومن الملفات محتملة التعاون بين البلدين هي السودان، باعتبارها هدفًا مشتركًا للبلدين، إذ أن مصر تعتبرها جزءا من أمنها القومي جنوبًا، وكذلك تركيا يمكن أن تستمثر السودان لاستعاده حضورها في البحر الأحمر، وتظهر بوادر هذه الرغبة التركية من خلال العديد من اتفاقيات التعاون المشترك بين أنقرة والخرطوم في 2017م.(21)
ومع الأزمة السودانية في أبريل 2023م اتخذت أنقرة موقفاً قوياً وداعماً للحكومة السودانية وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان الذي زار انقرة في نفس العام، ويضاف إلى العلاقات القوية التي تربط كلا من مصر وتركيا بالسودان اتفاق الدولتين حول حل الأزمة السودانية بالطرق السياسية والدبلوماسية (22)، ومن خلال قراءة هذا يرجح إقامة تعاون محتمل بين البلدين، في إطار التقارب المصري التركي المستمر وسعي تركيا لتعزيز تواجدها المنشود في أفريقيا أكثر مما هي عليه كما توضحه خارطة تواجد تركيا.
غــاز شــرق الـمــتـوســـط
حقول الغاز في شرق البحر المتوسط هي أكثر الملفات تعقيداً يمكن أن يصعب من عملية التقارب والتوافق التركي المصري، فهذه المنطقة النفطية في شرق المتوسط حولها خلاف يرجع تاريخه إلى زمن بعيد، إذ نشب بين تركيا ومصر وقبرص واليونان، بالإضافة إلى تشابكه مع أطراف أخرى كإسرائيل وليبيا والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. فبينما تركيا تعتبر منطقة حوض شرق المتوسط تابعة لها تاريخياً وجيولوجياً وسياسياً، وأنها تقع ضمن حدودها البحرية وأن للقبارصة الأتراك حقوقاً سيادية على هذه المنطقة الخالصة لجزيرة قبرص التركية، ومعنية بالحفاظ على المنطقة بشكل كلي، وتحدد مساحة من البحر المتوسط تقول بتبعيتها لها كما هو موضح في خارطة الادعاء التركي.
نجد في الجانب الآخر مصر واليونان وقبرص تعتبر أن المحرك الرئيسي لأنقرة هو محاولتها الـسيطرة على مـوارد الغـاز للجـزيرة، وأيضاً تعـزيز مـوقعها كـمركز للـطاقــة إقليمياً، وذلك بإرسـالـها السـفن تـلو الأخرى للبحث والتنقيب عن الغــاز في شـرق البـحـر الأبيض، إذ بدأًت من تاريخ 30 أكتوبر 2018م حين إرسالها لسفينة “فاتح” التركية بتأمين من حلف الناتو.(23) ورداً على حملات التنقيب التي تقوم بها تركيا، قامت مصر بإنشاء “منتدى غاز شرق المتوسط” في يناير 2019م وضمت فيه إسرائيل والأردن واليونان وقبرص وإيطاليا،(24) كخطوة أولى نحو التعاون المشترك فيما بين الدول الأعضاء في المنتدى بغرض البدء في رسم الحدود البحرية للدول المطلة على البحر المتوسط ومن ثم استغلالها موارد الغاز بشرق المتوسط، وبهدف نقل وتسويق الغاز الطبيعي منه وإنشاء خطوط أنابيب إقليمية تمتد للأسواق الخارجية. هذه الخطوة التي قادتها مصر اعتبرتها أنقرة محاولة من الدول المشاركة لعزلها عن ثروات المنطقة، واستمرت أيضاً بتحركاتها في التنقيب عن النفط والغاز رغم الانتقادات والتحذيرات التي وجهت إليها، وكذلك قيامها بترسيم حدودها البحرية مع ليبيا عام 2022م.(25)
وهكذا تبدو المسألة معقدة، وانخرطت فيها كلا من مصر وتركيا، وهي في حقيقة أمرها صراع يرجع بالأساس لأسباب جيوسياسية أكثر من كونها أسباب اقتصادية، نظراً لأن نسبة موارد الغاز الموجودة في حوض شرق المتوسط لا تتجاوز 2% فقط من الاحتياطات العالمية. وهذه القضية قد أخذت طابعاً دولياً بسبب التدخل من قبل القوى الدولية للحد من الصراع الناشب حوله.
ومع الموقف التركي المصري الأخير والمفاجئ نوعاً ما في زيارة من الرئيس المصري لتركيا كمبادرة للتقارب بين الدولتين وإقامة العلاقات فيما بينهما، والذي بدوره يفتح آفاقاً للتساؤلات حوله.
ما مدى تأثير هذا التقارب على الصراع القائم حول الحدود البحرية في البحر المتوسط؟ وما مصير قضية غاز الشرق المتوسط؟ وما هو موقف كلا من اليونان وقبرص تجاه هذا؟
هذا التقارب وهذه المرحلة والتي تعتبر مرحلة مهمة ومفصلية، بعد زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري أنقرة، وزيارة نظيره التركي مولود جاويش القاهرة، والتي ستؤثر بشكل كبير وتمثل تمهيداً لحل الخلافات العالقة بين البلدين حول الغاز في شرق المتوسط، وترسيم الحدود البحرية فيما بينهما، لن يكون أثره مقصوراً فقط على البلدين ولا على دول الإقليم فقط، بل سيكون له امتدادات دولية ستدفع بعض الدول كالولايات المتحدة الأمريكية للتدخل في هذا المشهد وإعادة بناء منظومة العلاقات داخل الإقليم.
كما أن هذا التوافق لم يتم التوصل إليه إلا بعد مرور سنوات عديدة حتى يتم إقراره، وبالتالي فإن أطراف الصراع في الإقليم كاليونان وقبرص وإسرائيل قد كانت تبدي تحفظات تجاه مصر من انفتاحها على تركيا، وسيجعلها هذا بحاجة إلى تغيير موقفها تجاه مصر، وهذا ما يعقد الطريق أمام مصر إذا رغبت أن تمضي في تفاهمات مع تركيا حول ملف غاز شرق المتوسط، إذ تتنازع عديد الدول على خطوط الغاز الطبيعي في شرق البحر المتوسط.
خـــاتـــمــة
من خلال استعراض ما سبق، فإن المؤشرات تذهب إلى أن العلاقات المصرية التركية ليست حدثًا خاصًا بالبلدين فقط، وإنما تغير إقليمي وواسع، وسيلقي بظلاله على عديد من الملفات في المنطقة، ويظهر أن العلاقات الثنائية ستمضي قدمًا وليس واردا عودتها إلى التوتر، وإنما من المتوقع أن يزيد عمق هذه العلاقات وتزداد الثقة المتبادلة، إذ تغطى الفرص والمؤيدات على التحديات والعوائق. وتثمر الزيارة والتقارب بين البلدين في عدد من الملفات، أهمها تعزيز التعاون العسكري، حيث من المحتمل أن تعمل تركيا على تزويد مصر بطائراتها المسيّرة المتطورة، وكذلك التعاون في البحر المتوسط واستغلال الطاقة، إذ من المتوقع أن نشهد تعاوناً أوثق في مجال استغلال الطاقة الكامنة في المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية، ويسمح هذا التقارب لتركيا بزيادة عمليات التنقيب في المناطق الحدودية، مع إمكانية توسيع نطاق التنقيب إلى مناطق جديدة. وكذلك التعاون في الملف الليبي بالتنسيق بين القاهرة وأنقرة، للتوصل إلى حلول توافقية بين الأطراف الليبية المتنازعة، والاستمرار في تقديم المساعدات لقطاع غزة بالتنسيق بين البلدين، والعمل على إيقاف الحرب وانسحاب “إسرائيل” من القطاع. وبالنسبة للملف السوري فستلعب مصر دور الوسيط بين تركيا والنظام السوري لعودة اللاجئين السوريين لبلدهم وتخفيف الأعباء على الاقتصاد التركي. ومن المتوقع أن يلعب البلدان دوراً أكبرا في الأزمة السودانية، حيث يتبنيان مواقف متقاربة في دعم الحكومة السودانية الحالية التي يمثلها الجيش السوداني، وكذلك في الصومال: إذ أن مصر وتركيا تتفقان على دعم الحكومة الصومالية الحالية، ضد أي تهديدات ومنها الأثيوبية. وقد تسعى تركيا إلى محاولة المصالحة بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين، رغم صعوبة الأمر واحتدام التصادم بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين.
أخيرًا، يظهر جليًا أن للتقارب التركي المصري آفاق واسعة، وقطار التقارب يمضي إلى الأمام وبخطوات مشتركة وسيصل إلى مستويات عالية تشكل تغيرات في كثير من الملفات بين البلدين أو في المنطقة العربية.
______________
المصادر والمراجع:
- كيف تفاعل المغردون على زيارة السيسي التاريخية لتركيا؟، قناة بي بي سي بالعربية، 5 سبتمبر/ 2024م، انظر: https://www.bbc.com/arabic/articles/c3ejk5297y5o
- بعد عقد من القطيعة… السيسي وأردوغان يوقعان في أنقرة 17 اتفاقية تعاون، قناة فرانس 24، 4 سبتمبر 2024م، انظر: https://f24.my/AZdL.W
- بيان وزارة الخارجية المصرية في 23 نوفمبر 2013م.
- العلاقات المصرية – التركية.. محطات الخلاف وسبل الانفراجة، صحيفة الشرق الأوسط بالقاهرة، في: 14 فبراير 2024م، انظر: https://aawsat.news/9wnn9
- أول مصافحة بين السيسي وأردوغان على هامش افتتاح مونديال قطر.. هل اقتربت المصالحة، سي إن إن بالعربية 20/11/2022م، انظر: https://arabic.cnn.com/sport/article /2022/11/20/erdogan-sisi-qatar-world-cup
- كرم سعيد، تحركات مكثفة.. دوافع التقارب المصري التركي، مجلة السياسة الدولية، 13 فبراير 2024م، انظر: https://www.siyassa.org.eg/News/21778.aspx
- المتحدث باسم الرئاسة المصرية يكشف تفاصيل لقاءات السيسي بكل من أردوغان ورئيسي والأسد وبن سلمان، قناة آر تي بالعربية، 12 نوفمبر 2023م، انظر: https://arabic.rt.com/middle_east/1511968
- إسراء فؤاد، مصر وتركيا شراكة اقتصادية شاملة وفرص استثمارية واعدة.. القاهرة أكبر شريك تجاري لأنقرة في أفريقيا بأكثر من 2 مليار دولار.. التبادل التجارى 7.1 مليار دولار فى 2022.. والشركات التركية تتمتع بفرص الاعفاء من الجمارك، صحيفة اليوم السابع، انظر: https://www.youm7.com/6695837
- عمرو هاشم ربيع، 8 ملفات حرجة كانت على طاولة مباحثات السيسي وأردوغان، الجزيرة نت 4 سبتمبر 2024م، انظر: https://aja.ws/sg1iyq
- إبراهيم مصطفى، هل يثمر التقارب المصري – التركي استقرارا في ليبيا، قناة إندبندينت بالعربية 22 يوليو 2023م، انظر: https://www.independentarabia.com/node/476021
- كيف تفاعل المغردون على زيارة السيسي التاريخية لتركيا؟، قناة بي بي سي بالعربية، 5 سبتمبر/ 2024م، انظر: https://www.bbc.com/arabic/articles/c3ejk5297y5o
- أردوغان: كما فعلنا في ليبيا وفي قره باغ سوف ندخل إسرائيل إذا لزم الأمر (فيديو)، قناة آر تي بالعربية 28 يوليو 2024م، انظر: https://ar.rt.com/y044
- أردوغان يشعل تفاعلا بتصريح “الصهيونية ضد المسلمين” ودعوة لتحالف إسلامي، قناة سي إن إن بالعربية 8 سبتمبر في 2024م، انظر: https://arabic.cnn.com/middle-east/article /2024/09/08/erdogan-viral-speech-zionism-vs-islam-unity-social-reactions
- الرئيس التركي: نواصل إرسال المساعدات إلى غزة عن طريق مصر، قناة صدى البلد 13 أكتوبر 2023م، انظر: https://www.elbalad.news/5957948
- أردوغان: سنوجه دعوتنا للأسد لاستعادة العلاقات التركية السورية، أميمة الشاذلي، قناة بي بي سي عربي 8 يوليو 2024م، انظر: https://www.bbc.com/arabic/articles/ck5grrkd32go
- مصر وتركيا تتفقان على مضاعفة حجم التجارة إلى 15 مليار دولار، قناة سي إن إن بالعربية 5 سبتمبر 2024م، انظر: https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2024/09/05/turkiye-egypt-agree-increasing-trade
- إسراء فؤاد، مصر وتركيا شراكة اقتصادية شاملة، موقع اليوم السابع 6/9/2024م، انظر: http://www.youm7.com/6695837
- صومالي لاند: تُسمى جمهورية أرض الصومال، وهي جمهورية أعلنت استقلالها من الصومال في 1990م، ولكن غير معترف بها رسميًا.
- عمرو هاشم، 8 ملفات حرجة كانت على طاولة مباحثات السيسي وأردوغان، الجزيرة نت 4 سبتمبر 2024م، انظر: https://aja.ws/sg1iyq
- منتدى غاز شرق المتوسط: هيئة تأسست في 2019م ويضم مصر واليونان وقبرص، ويهدف لإنشاء سوق غاز إقليمي في منطقة شرق المتوسط، ويشكل تهديدًا لمصالح تركيا.
- السيسي يحمل 3 ملفات أفريقية حرجة خلال زيارته إلى تركيا، موقع فيتو الإخباري 4/9/2024م، انظر: https://www.vetogate.com/5230313
- عمرو هاشم، مرجع سابق.
- توتر مصري تركي بالبحر المتوسط.. صراع على الغاز أم النفوذ؟، قناة الجزير 5 سبتمبر 2019م، انظر: https://aja.me/93pjs
- عبد الحافظ الصاوي، جدل مصري تركي.. هل يفجر غاز شرق المتوسط صراع إعادة تشكيل القوى الإقليمية؟، قناة الجزيرة 2 ديسمبر 2019م، انظر: https://aja.me/xu3rjw
- طارق فهمي، ماذا ينتظر إقليم شرق المتوسط بعد تقارب مصر وتركيا؟، قناة إندبندنت بالعربية 31 مارس 2023م، انظر: https://www.independentarabia.com/node/436166
لتنزيل ورقة تقدير الموقف كاملة اضغط هنا أو على الصورة
مـشاركة الـرابط عبر الــــــــبـرامج التالية
إرسال التعليق